سورة غافر - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (غافر)


        


{وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)}
قوله تعالى: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية روى النعمان بن بشير قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. فدل هذا على أن الدعاء هو العبادة. وكذا قال أكثر المفسرين وأن المعنى: وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم.
وقيل: هو الذكر والدعاء والسؤال. قال أنس: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع» ويقال الدعاء: هو ترك الذنوب.
وحكى قتادة أن كعب الأحبار قال: أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم تعطهن أمة قبلهم إلا نبي: كان إذا أرسل نبي قيل له أنت شاهد على أمتك، وقال تعالى لهذه الأمة: {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وكان يقال للنبي: ليس عليك في الدين من حرج، وقال لهذه الأمة: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وكان يقال للنبي ادعني استجب لك، وقال لهذه الأمة: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. قلت: مثل هذا لا يقال من جهة الرأي. وقد جاء مرفوعا، رواه ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا للأنبياء كان الله تعالى إذا بعث النبي قال ادعني استجب لك وقال لهذه الأمة: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وكان الله إذا بعث النبي قال: ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الأمة شهداء على الناس» ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وكان خالد الربعي يقول: عجيب لهذه الأمة قيل لها: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أمرهم بالدعاء ووعدهم الاستجابة وليس بينهما شرط. قال له قائل: مثل ماذا؟ قال: مثل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} [البقرة: 25] فها هنا شرط، وقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس: 2]، فليس فيه شرط العمل، ومثل قوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14] فها هنا شرط، وقوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ليس فيه شرط. وكانت الأمة تفزع إلى أنبيائها في حوائجها حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك. وقد قيل: إن هذا من باب المطلق والمقيد على ما تقدم في البقرة بيانه. أي {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} إن شئت، كقوله: {فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ} [الأنعام: 41]. وقد تكون الاستجابة في غير عين المطلوب على حديث أبي سعيد الخدري على ما تقدم في البقرة بيانه فتأمله هناك. وقرأ ابن كثير وابن محيصن ورويس عن يعقوب وعياش عن أبي عمرو وأبو بكر والمفضل عن عاصم {سيدخلون} بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله. الباقون {يدخلون} بفتح الياء وضم الخاء. ومعنى {داخِرِينَ} صاغرين أذلاء وقد تقدم. قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} {جعل} هنا بمعنى خلق، والعرب تفرق بين جعل إذا كانت بمعنى خلق وبين جعل إذ لم تكن بمعنى خلق، فإذا كانت بمعنى خلق فلا تعديها إلا إلى مفعول واحد، وإذا لم تكن بمعنى خلق عدتها إلى مفعولين، نحو قوله: {إنا جعلناه قرآنا عربيا} وقد مضى هذا المعنى في موضع. {وَالنَّهارَ مُبْصِراً} أي مضيئا لتبصروا فيه حوائجكم وتتصرفوا في طلب معايشكم. {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} فضله وإنعامه عليهم. بين الدلالة على وحدانيته وقدرته. {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي كيف تنقلبون وتنصرفون عن الإيمان بعد أن تبينت لكم دلائله كذلك، أي كما صرفتم عن الحق مع قيام الدليل عليه ف {كَذلِكَ يُؤْفَكُ} يصرف عن الحق {الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}. قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً} زاد في تأكيد التعريف والدليل، أي جعل لكم الأرض مستقرا لكم في حياتكم وبعد الموت. {وَالسَّماءَ بِناءً} تقدم. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي خلقكم في أحسن صورة. وقرأ أبو رزين والأشهب العقيلي {صوركم} بكسر الصاد، قال الجوهري: والصور بكسر الصاد لغة في الصور جمع صورة وينشد هذا البيت على هذه اللغة يصف الجواري:
أشبهن من بقر الخلصاء أعينها *** هن أحسن من صيرانها صورا
والصيران جمع صوار وهو القطيع من البقر والصوار أيضا وعاء المسك وقد جمعهما الشاعر بقوله:
إذا لاح الصوار ذكرت ليلى ***- وأذكرها إذا نفخ الصوار
والصيار لغة فيه. {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} تقدم {هُوَ الْحَيُّ} أي الباقي الذي لا يموت {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي الطاعة والعبادة. {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} قال الفراء: هو خبر وفيه إضمار أمر أي ادعوه واحمدوه. وقد مضى هدا كله مستوفى في البقرة وغيرها.
وقال ابن عباس: من قال: {لا إله إلا الله} فليقل {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.


{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)}
قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ} أي قل يا محمد: نهاني الله الذي هو الحي القيوم ولا إله غيره {أَنْ أَعْبُدَ} غيره. {لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي} أي دلائل توحيده {وأمرت أن أسلم} أذل وأخضع {لرب العالمين} وكانوا دعوه إلى دين آبائه، فأمر أن يقول هذا.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} أي أطفالا. وقد تقدم هذا. {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} وهي حالة اجتماع القوة وتمام العقل. وقد مضى في الأنعام بيانه. {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} بضم الشين قراءة نافع وابن محيصن وحفص وهشام ويعقوب وأبو عمرو على الأصل، لأنه جمع فعل، نحو: قلب وقلوب ورأس ورءوس. وقرأ الباقون بكسر الشين لمراعاة الياء وكلاهما جمع كثرة، وفي العدد القليل أشياخ والأصل أشيخ، مثل فلس وأفلس إلا أن الحركة في الياء ثقيلة. وقرئ: {شيخا} على التوحيد، كقوله: {طِفْلًا} والمعنى كل واحد منكم، واقتصر على الواحد لأن الغرض بيان الجنس.
وفي الصحاح: جمع الشيخ شيوخ وأشياخ وشيخة وشيخان ومشيخة ومشايخ ومشيوخاء، والمرأة شيخة. قال عبيد:
كأنها شيخة رقوب ***
وقد شاخ الرجل يشيخ شيخا بالتحريك على أصله وشيخوخة، واصل الياء متحركة فسكنت، لأنه ليس في الكلام فعلول. وشيخ تشييخا أي شاخ. وشيخته دعوته شيخا للتبجيل. وتصغير الشيخ شييخ وشييخ أيضا بكسر الشين ولا تقل شويخ النحاس: وإن اضطر شاعر جاز أن يقول أشيخ مثل عين واعين إلا أنه حسن في عين، لأنها مؤنثة. والشيخ من جاوز أربعين سنة. {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} قال مجاهد: أي من قبل أن يكون شيخا، أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا. {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} قال مجاهد: الموت للكل. واللام لام العاقبة. {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ذلك فتعلموا أن لا إله غيره.
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} زاد في التنبيه أي هو الذي يقدر على الإحياء والإماتة. {فَإِذا قَضى أَمْراً} أي أراد فعله قال: {لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. ونصب {فيكون} ابن عامر على جواب الأمر. وقد مضى في البقرة القول فيه.


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} قال ابن زيد: هم المشركون بدليل قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا}.
وقال أكثر المفسرين: نزلت في القدرية. قال ابن سيرين: إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية فلا أدري فيمن نزلت. قال أبو قبيل: لا أحسب المكذبين بالقدر إلا الذين يجادلون الذين آمنوا.
وقال عقبة بن عامر: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «نزلت هذه الآية في القدرية» ذكره المهدوي. قوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ} أي عن قريب يعلمون بطلان ما هم فيه إذا دخلوا النار وغلت أيديهم إلى أعناقهم. قال التيمي: لو أن غلا من أغلال جهنم وضع على جبل لوهصه حتى يبلغ الماء الأسود. {والسلاسل} بالرفع قراءة العامة عطفا على الأغلال. قال أبو حاتم: {يسحبون} مستأنف على هذه القراءة.
وقال غيره: هو في موضع نصب على الحال، والتقدير: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} مسحوبين. وقرأ ابن عباس وأبو الجوزاء وعكرمة وابن مسعود {وَالسَّلاسِلُ} بالنصب {يُسْحَبُونَ} بفتح الياء والتقدير في هذه القراءة ويسحبون السلاسل. قال ابن عباس: إذا كانوا يجرونها فهو أشد عليهم. وحكي عن بعضهم {والسلاسل} بالجر ووجهه أنه محمول على المعنى، لأن المعنى أعناقهم في الأغلال والسلاسل، قال الفراء.
وقال الزجاج: ومن قرأ {والسلاسل يسحبون} بالخفض فالمعنى عنده وفي {السلاسل يسحبون}. قال ابن الأنباري: والخفض على هذا المعنى غير جائز، لأنك إذا قلت زيد في الدار لم يحسن أن تضمر {في} فتقول زيد الدار، ولكن الخفض جائز. على معنى إذ أعناقهم في الأغلال والسلاسل، فتخفض السلاسل على النسق على تأويل الأغلال، لأن الأغلال في تأويل الخفض، كما تقول: خاصم عبد الله زيدا العاقلين فتنصب العاقلين. ويجوز رفعهما، لأن أحدهما إذا خاصم صاحبه فقد خاصمه صاحبه، أنشد الفراء:
قد سالم الحيات منه القدماء *** الأفعون والشجاع الشجعما
فنصب الأفعوان على الإتباع للحيات إذا سالمت القدم فقد سالمتها القدم. فمن نصب السلاسل أو خفضها لم يقف عليها. {الْحَمِيمِ} لا لمتناهي في الحر.
وقيل: الصديد المغلي. {
ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} أي يطرحون فيها فيكونون وقودا لها، قال مجاهد. يقال: سجرت التنور أي أوقدته، وسجرته ملأته، ومنه {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6] أي المملوء. فالمعنى على هذا تملأ بهم النار وقال الشاعر يصف وعلا:
إذا شاء طالع مسجورة *** وترى حولها النبع والسمسما
أي عينا مملوءة. {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وهذا تقريع وتوبيخ. {قالُوا ضَلُّوا عَنَّا} أي هلكوا وذهبوا عنا وتركونا في العذاب، من ضل الماء في اللبن أي خفي.
وقيل: أي صاروا بحيث لا نجدهم. {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} أي شيئا لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع. وليس هذا إنكارا لعبادة الأصنام، بل هو اعتراف بأن عبادتهم الأصنام كانت باطلة، قال الله تعلى: {كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ} أي كما فعل بهؤلاء من الإضلال يفعل بكل كافر. قوله تعالى: {ذلِكُمْ} أي ذلكم العذاب {بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ} بالمعاصي يقال لهم ذلك توبيخا. أي إنما نالكم هذا بما كنتم تظهرون في الدنيا من السرور بالمعصية وكثرة المال والأتباع والصحة. وقيل إن فرحهم بها عندهم أنهم قالوا للرسل: نحن نعلم أنا لا نبعث ولا نعذب. وكذا قال مجاهد في قوله جل وعز: {فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر: 83]. {وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} قال مجاهد وغيره: أي تبطرون وتأشرون. وقد مضى في {سبحان} بيانه.
وقال الضحاك: الفرح السرور، والمرح العدوان.
وروى خالد عن ثور عن معاذ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن الله يبغض البذخين الفرحين ويحب كل قلب حزين ويبغض أهل بيت لحمين ويبغض كل حبر سمين» فأما أهل بيت لحمين: فالذين يأكلون لحوم الناس بالغيبة. وأما الحبر السمين: فالمتحبر بعلمه ولا يخبر بعلمه الناس، يعني المستكثر من علمه ولا ينتفع به الناس. ذكره الماوردي. وقد قيل في اللحمين: أنهم الذين يكثرون أكل اللحم، ومنه قول عمر: اتقوا هذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر، ذكره المهدوي. والأول قول سفيان الثوري. {ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ} أي يقال لهم ذلك اليوم، وقد قال الله تعالى: {لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ} [الحجر: 44]. {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} تقدم جميعه. قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} هذا تسلية للنبي عليه السلام، أي إنا لينتقم لك منهم إما في حياتك أو في الآخرة. {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} في موضع جزم بالشرط وما زائدة للتوكيد وكذا النون وزال الجزم وبني الفعل على الفتح. {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} عطف عليه {فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ} الجواب. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ} عزاه أيضا بما لقيت الرسل من قبله. {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ} أي أنبأناك بأخبارهم وما لقوا من قومهم. {وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ} لا يأتي بها من قبل نفسه وإنما هي من عند الله أي من قبل نفسه {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ} أي إذا جاء الوقت المسمى لعذابهم أهلكهم الله، وانما التأخير لإسلام من علم الله إسلامه منهم ولمن في أصلابهم من المؤمنين.
وقيل: أشار بهذا الى القتل ببدر. {قضى بينهم بالحق وخسر هنالك المبطلون} أي الذين يتبعون الباطل والشرك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7